فصل: باب هَلْ يُجْعَلُ شَعَرُ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

مساءً 1 :16
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسَّدْرِ

وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَقَالَ سَعِيدٌ لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غسل الميت ووضوئه‏)‏ أي بيان حكمه، وقد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور لمالكية حتى أن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن الجمهور على وجوبه‏.‏

وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك، وقد توارد به القول والعمل، وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه‏.‏

وأما قوله ‏(‏ووضوئه‏)‏ فقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ ترجم بالوضوء ولم يأت له بحديث فيحتمل أن يريد انتزاع الوضوء من الغسل لأنه منزل على المعهود من الأغسال كغسل الجنابة، أو أراد وضوء الغاسل أي لا يلزمه وضوء، ولهذا ساق أثر ابن عمر انتهى‏.‏

وفي عود الضمير على الغسل ولم يتقدم له ذكر بعد إلا أن يقال تقدير الترجمة باب غسل الحي الميت لأن الميت لا يتولى ذلك بنفسه فيعود الضمير على المحذوف فيتجه، والذي يظهر أنه أشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرق الحديث فسيأتي قريبا في حديث أم عطية أيضا ‏"‏ ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها‏"‏، فكأنه أراد أن الوضوء لم يرد الأمر به مجردا وإنما ورد البداءة بأعضاء الوضوء كما يشرع في غسل الجنابة، أو أراد أن الاقتصار على الوضوء لا يجزئ لورود الأمر بالغسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالماء والسدر‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ جعلهما معا آلة لغسل الميت، وهو مطابق لحديث الباب، لأن قوله بماء وسدر يتعلق بقوله اغسلنها وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل، وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن الماء المضاف لا يتطهر به انتهى‏.‏

وقد يمنع لزوم كون الماء يصير مضافا بذلك، لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك‏.‏

وقال القرطي‏:‏ يجعل السدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده ثم يصب عليه الماء القراح، فهذه غسلة‏.‏

وحكى ابن المنذر أن قوما قالوا‏:‏ تطرح ورقات السدر في الماء أي لئلا يمازج الماء فيتغير وصفه المطلق‏.‏

وحكي عن أحمد أنه أنكر ذلك وقال‏:‏ يغسل في كل مرة بالماء والسدر‏.‏

وأعلى ما ورد في ذلك ما رواه أبو داود من طريق قتادة عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ كان يقال كان ابن سيرين من أعلم التابعين بذلك‏.‏

وقال ابن العربي من قال الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر أو العكس والثالثة بالماء والكافور فليس هو في لفظ الحديث ا ه‏.‏

وكأن قائله أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصرف المطلق لأنه المطهر في الحقيقة، وأما المضاف فلا‏.‏

وتمسك بظاهر الحديث ابن شعبان وابن الفرضي وغيرهما من المالكية فقالوا‏:‏ غسل الميت إنما هو للتنظيف فيجزئ بالماء المضاف كماء الورد ونحوه، قالوا وإنما يكره من جهة السرف، والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي يشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة‏.‏

وقيل‏:‏ شرع احتياطا لاحتمال أن يكون عليه جنابة، وفيه نظر لأن لازمه أن لا يشرع غسل من هو دون البلوغ وهو خلاف الإجماع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحنط ابن عمر ابنا لسعيد بن زيد وحمله وصلى ولم يتوضأ‏)‏ حنط بفتح المهملة والنون الثقيلة أي طيبه بالحنوط وهو كل شيء يخلط من الطيب للميت خاصة، وقد وصله مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر حنط ابنا لسعيد بن زيد وحمله ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ انتهى‏.‏

والابن المذكور اسمه عبد الرحمن، كذلك رويناه في نسخة أبي الجهم العلاء بن موسى عن الليث عن نافع أنه رأى عبد الله بن عمر حنط عبد الرحمن بن سعيد بن زيد فذكره‏.‏

قيل‏:‏ تعلق هذا الأثر وما بعده بالترجمة من جهة أن المصنف يرى أن المؤمن لا ينجس بالموت وأن غسله إنما هو للتعبد لأنه لو كان نجسا لم يطهره الماء والسدر ولا الماء وحده، ولو كان نجسا ما مسه ابن عمر ولغسل ما مسه من أعضائه، وكأنه أشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود من طريق عمرو بن عمير عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ ‏"‏ رواته ثقات إلا عمرو بن عمير فليس بمعروف، وروى الترمذي وابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، وهو معلول لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه‏:‏ الصواب عن أبي هريرة موقوف‏.‏

وقال أبو داود بعد تخريجه‏:‏ هذا منسوخ، ولم يبين ناسخه‏.‏

وقال الذهلي فيما حكاه الحاكم في تاريخه‏:‏ ليس فيمن غسل ميتا فليغتسل حديث ثابت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس رضي الله عنهما إلخ‏)‏ وصله سعيد بن منصور ‏"‏ حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس ينجس حيا ولا ميتا ‏"‏ إسناده صحيح، وقد روي مرفوعا أخرجه الدارقطني عن رواية عبد الرحمن بن يحيى المخزومي عن سفيان، وكذلك أخرجه الحاكم من طريق أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة عن سفيان، والذي في مصنف ابن أبي شيبة عن سفيان موقوف كما رواه سعيد بن منصور، وروى الحاكم نحوه مرفوعا أيضا من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله ‏"‏لا تنجسوا موتاكم ‏"‏ أي لا تقولوا إنهم نجس، وقوله ينجس بفتح الجيم‏.‏

قوله ‏(‏وقال سعد لو كان نجسا ما مسسته‏)‏ وقع في رواية الأصيلي وأبي الوقت ‏"‏ وقال سعيد ‏"‏ بزيادة ياء والأول أولى وهو سعد بن أبي وقاص كذلك أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت سعد قالت ‏"‏ أوذن سعد - تعني أباها - بجنازة سعيد بن زيد بن عمرو وهو بالعقيق فجاءه فغسله وكفنه وحنطه، ثم أتى داره فاغتسل ثم قال‏:‏ لم أغتسل من غسله، ولو كان نجسا ما مسسته، ولكني اغتسلت من الحر ‏"‏ وقد وجدت عن سعيد بن المسيب شيئا من ذلك أخرجه سمويه في فوائده من طريق أبي واقد المدني قال‏:‏ قال سعيد بن المسيب لو علمت أنه نجس لم أمسه‏.‏

وفي أثر سعد من الفوائد أنه ينبغي للعالم إذا عمل عملا يخشى أن يلتبس على من رآه أن يعلمهم بحقيقة الأمر لئلا يحملوه على غير محمله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ المؤمن لا ينجس‏)‏ هذا طرف من حديث لأبي هريرة تقدم موصولا في ‏"‏ باب الجنب يمشي في السوق ‏"‏ من كتاب الغسل، ووجه الاستدلال به أن صفة الإيمان لا تسلب بالموت وإذا كانت باقية فهو غير نجس، وقد بين ذلك حديث ابن عباس المذكور قبل، ووقع في نسخة الصغاني هنا ‏"‏ قال أبو عبد الله‏:‏ النجس القذر ‏"‏ انتهى‏.‏

وأبو عبد الله هو البخاري‏.‏

وأراد بذلك نفي هذا الوصف وهو النجس عن المسلم حقيقة ومجازا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي إِزَارَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أيوب عن محمد بن سيرين‏)‏ في رواية ابن جريج عن أيوب سمعت ابن سيرين، وسيأتي في ‏"‏ باب كيف الإشعار ‏"‏ وقد رواه أيوب أيضا عن حفصة بنت سيرين كما سيأتي بعد أبواب، ومدار حديث أم عطية على محمد وحفصة ابني سيرين، وحفظت منه حفصة ما لم يحفظه محمد كما سيأتي مبينا‏.‏

قال ابن المنذر ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية وعليه عول الأئمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أم عطية الأنصارية‏)‏ في رواية ابن جريج المذكورة ‏"‏ جاءت أم عطية امرأة من الأنصار اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت البصرة تبادر ابنا لها فلم تدركه ‏"‏ وهذا الابن ما عرفت اسمه وكأنه كان غازيا، فقدم البصرة فبلع أم عطية وهي بالمدينة قدومه وهو مريض فرحلت إليه فمات قبل أن تلقاه وسيأتي في الإحداد ما يدل على أن قدومها كان بعد موته بيوم أو يومين، وقد تقدم في المقدمة أن اسمها نسيبة بنون ومهملة وموحدة‏.‏

والمشهور فيها التصغير‏.‏

وقيل بفتح أوله وقع ذلك في رواية أبي ذر عن السرخسي وكذا ضبطه الأصيلي عن يحيى بن معين وطاهر بن عبد العزيز في السيرة الهشامية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حين توفيت ابنته‏)‏ في رواية الثقفي عن أيوب وهي التي تلي هذه وكذا في رواية ابن جريج ‏"‏ دخل علينا ونحن نغسل بنته ‏"‏ ويجمع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع النسوة في الغسل، وعند النسائي أن مجيئهن إليها كان بأمره، ولفظه من رواية هشام بن حسان عن حفصة ‏"‏ ماتت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا فقال اغسلنها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابنته‏)‏ لم تقع في شيء من رواية البخاري مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاصي بن الربيع والدة أمامة التي تقدم ذكرها في الصلاة، وهي أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها فيما حكاه الطبري في الذيل في أول سنة ثمان، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم من طريق عاصم الأحول عن حفصة عن أم عطية قالت ‏"‏ لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله‏:‏ اغسلنها ‏"‏ فذكر الحديث، ولم أرها في شيء من الطرق عن حفصة ولا عن محمد مسماة إلا في رواية عاصم هذه، وقد خولف في ذلك فحكى ابن التين عن الداودي الشارح أنه جزم بأن البنت المذكورة أم كلثوم زوج عثمان ولم يذكر مستنده، وتعقبه المنذري بأن أم كلثوم توفيت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر فلم يشهدها، وهو غلط منه فإن التي توفيت حينئذ رقية، وعزاه النووي تبعا لعياض لبعض أهل السير، وهو قصور شديد فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب ولفظه ‏"‏ دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم ‏"‏ وهذا الإسناد على شرط الشيخين، وفيه نظر سيأتي في ‏"‏ باب كيف الإشعار ‏"‏ وكذا وقع في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ لابن بشكوال من طريق الأوزاعي عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت ‏"‏ كنت فيمن غسل أم كلثوم ‏"‏ الحديث، وقرأت بخط مغلطاي‏:‏ زعم الترمذي أنها أم كلثوم وفيه نظر‏.‏

كذا قال، ولم أر في الترمذي شيئا من ذلك‏.‏

وقد روى الدولابي في الذرية الطاهرة من طريق أبي الرجال عن عمرة أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم ابنة النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيمكن دعوى ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما جميعا، فقد جزم ابن عبد البر رحمه الله في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات، ووقع لي من تسمية النسوة اللاتي حضرن معها ثلاث غيرها، ففي الذرية الطاهرة أيضا من طريق أسماء بنت عميس أنها كانت ممن غسلها قالت‏:‏ ومعنا صفية بنت عبد المطلب‏.‏

ولأبي داود من حديث ليلى بنت قانف بقاف ونون وفاء الثقفية قالت‏:‏ كنت فيمن غسلها‏.‏

وروى الطبراني من حديث أم سليم شيئا يومئ إلى أنها حضرت ذلك أيضا، وسيأتي بعد خمسة أبواب قول ابن سيرين‏:‏ ولا أدري أي بناته‏.‏

وهذا يدل على أن تسميتها في رواية ابن ماجه وغيره ممن دون ابن سيرين والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اغسلنها‏)‏ قال ابن بزيزة‏:‏ استدل به على وجوب غسل الميت، وهو مبني على أن قوله فيما بعد ‏"‏ إن رأيتن ذلك ‏"‏ هل يرجع إلى الغسل أو العدد، والثاني أرجح، فثبت المدعي‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ لكن قوله ثلاثا ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد لأن قوله ‏"‏ ثلاثا ‏"‏ غير مستقل بنفسه فلا بد أن يكون داخلا تحت صيغة الأمر فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والندب بالنسبة إلى الإيتار انتهى‏.‏

وقواعد الشافعية لا تأبى ذلك‏.‏

ومن ثم ذهب الكوفيون وأهل الطاهر والمزني إلى إيجاب الثلاث وقالوا‏:‏ إن خرج منه شيء بعد ذلك يغسل موضعه ولا يعاد غسل الميت، وهو مخالف لظاهر الحديث‏.‏

وجاء عن الحسن مثله أخرجه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال ‏"‏ يغسل ثلاثا فإن خرج منه شيء بعد فخمسا، فإن خرج منه شيء غسل سبعا ‏"‏ قال هشام وقال الحسن ‏"‏ يغسل ثلاثا، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج ولم يزد على الثلاث‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاثا أو خمسا‏)‏ في رواية هشام بن حسان عن حفصة ‏"‏ غسلنها وترا ثلاثا أو خمسا ‏"‏ و ‏"‏ أو ‏"‏ هنا للترتيب لا للتخيير، قال النووي‏:‏ المراد اغسلنها وترا وليكن ثلاثا فإن احتجن إلى زيادة فخمسا، وحاصله أن الإيتار مطلوب والثلاث مستحبة، فإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما فوقها وإلا زيد وترا حتى يحصل الإنقاء، والواجب من ذلك مرة واحدة عامة للبدن انتهى‏.‏

وقد سبق بحث ابن دقيق العيد في ذلك‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ في قوله ‏"‏ أو خمسا ‏"‏ إشارة إلى أن المشروع هو الإيتار لأنه نقلهن من الثلاث إلى الخمس وسكت عن الأربع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو أكثر من ذلك‏)‏ بكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث، في رواية أيوب عن حفصة كما في الباب الذي يليه ‏"‏ ثلاثا أو خمسا أو سبعا ‏"‏ ولم أر في شيء من الروايات بعد قوله سبعا التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية لأبي داود، وأما ما سواها فإما ‏"‏ أو سبعا ‏"‏ وإما ‏"‏ أو أكثر من ذلك ‏"‏ فيحتمل تفسير قوله أو أكثر من ذلك بالسبع، وبه قال أحمد، فكره الزيادة على السبع‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ لا أعلم أحدا قال بمجاوزة السبع، وساق من طريق قتادة أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية ثلاثا وإلا فخمسا وإلا فأكثر، قال‏:‏ فرأينا أن أكثر من ذلك سبع‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ الزيادة على السبع سرف‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ بلغني أن جسد الميت يسترخي بالماء فلا أحب الزيادة على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن رأيتن ذلك‏)‏ معناه التفويض إلى اجتهادهن بحسب الحاجة لا التشهي‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ إنما فوض الرأي ليهن بالشرط المذكور وهو الإيتار، وحكى ابن التين عن بعضهم قال‏:‏ يحتمل قوله ‏"‏ إن رأيتن ‏"‏ أن يرجع إلى الأعداد المذكورة، ويحتمل أن يكون معناه إن رأيتن أن تفعلن ذلك وإلا فالإنقاء يكفي‏.‏

قوله‏.‏

‏(‏بماء وسدر‏)‏ قال ابن العربي‏:‏ هذا أصل في جواز التطهر بالماء المضاف إذا لم يسلب الماء الإطلاق انتهى‏.‏

وهو مبني على الصحيح أن غسل الميت للتطهير كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور‏)‏ هو شك من الراوي أي اللفظتين قال، والأول محمول على الثاني لأنه نكرة في سياق الإثبات فيصدق بكل شيء منه، وجزم في الرواية التي تلي هذه بالشق الأول، وكذا في رواية ابن جريج، وظاهره جعل الكافور في الماء وبه قال الجمهور‏.‏

وقال النخعي والكوفيون‏:‏ إنما يجعل في الحنوط أي بعد إنهاء الغسل والتجفيف، قيل الحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم أن فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتحلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك، وهذا هو السر في جعله في الأخيرة إذ لو كان في الأولى مثلا لأذهبه الماء، وهل يقوم المسك مثلا مقام الكافور‏؟‏ إن نظر إلى مجرد التطيب فنعم، وإلا فلا، وقد يقال إذا عدم الكافور قام غيره مقامه ولو بخاصية واحدة مثلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا فرغتن فآذنني‏)‏ أي أعلمنني‏.‏

قوله‏.‏

‏(‏فلما فرغنا‏)‏ كذا للأكثر بصيغة الخطاب من الحاضر، وللأصيلي ‏"‏ فلما فرغن ‏"‏ بصيغة الغائب‏.‏

قوله ‏(‏حقوه‏)‏ بفتح المهملة - ويجوز كسرها وهي لغة هذيل - بعدها قاف ساكنة، والمراد به هنا الإزار كما وقع مفسرا في آخر هذه الرواية، والحقو في الأصل معقد الإزار، وأطلق على الإزار مجازا، وسيأتي بعد ثلاثة أبواب من رواية ابن عون عن محمد بن سيرين بلفظ ‏"‏ فنزع من حقوه إزاره ‏"‏ والحقو في هذا على حقيقته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشعرنها إياه‏)‏ أي اجعلنه شعارها أي الثوب الذي يلي جسدها، وسيأتي الكلام على صفته في باب مفرد، قيل الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولا ليكون قريب العهد من جسده الكريم حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد‏.‏

*3*باب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يستحب أن يغسل وترا‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ يحتمل أن تكون ‏"‏ ما ‏"‏ مصدرية أو موصولة، والثاني أظهر‏.‏

كذا قال وفيه نظر، لأنه لو كان المراد ذلك لوقع التعبير بمن التي لمن يعقل‏.‏

ثم أورد المصنف فيه حديث أم عطية أيضا من رواية أيوب عن محمد وليس فيه التصريح بالوتر، ومن رواية أيوب قال حدثتني حفصة وفيه ذلك، وقد تقدم الكلام فيه قبل‏.‏

ومحمد شيخه لم ينسب في أكثر الروايات، وقع عند الأصيلي حدثنا محمد بن المثنى‏.‏

وقال الجياني‏:‏ يحتمل أن يكون محمد بن سلام‏.‏

وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن الوليد وهو البسري عن عبد الوهاب وهو من شيوخ البخاري أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ فَقَالَ أَيُّوبُ وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ وَكَانَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ اغْسِلْنَهَا وِتْرًا وَكَانَ فِيهِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا وَكَانَ فِيهِ أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ وَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أيوب‏)‏ كذا للأكثر بالفاء وهو بالإسناد المذكور، ووقع عند الأصيلي وقال بالواو فربما ظن معلقا وليس كذلك‏.‏

وقد رواه الإسماعيلي بالإسنادين معا موصولا وسيأتي الكلام على ما في رواية حفصة من الزيادة فيما بعد‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ وترا ثلاثا أو خمسا ‏"‏ استدل به على أن أقل الوتر ثلاث، ولا دلالة فيه لأنه سيق مساق البيان للمراد إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها‏.‏

*3*باب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يبدأ بميامن الميت‏)‏ أي عند غسله، وكأنه أطلق في الترجمة ليشعر بأن غير الغسل يلحق به قياسا عليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا خالد‏)‏ هو الحذاء، وحفصة هي بنت سيرين‏.‏

قوله‏.‏

‏(‏في غسل ابنته‏)‏ في رواية هشيم عن خالد عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمرها أن تغسل ابنته قال لها‏.‏

فذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها‏)‏ ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا، قال الزين بن المنير‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ ابدأن بميامنها ‏"‏ أي في الغسلات التي لا وضوء فيها ‏(‏ومواضع الوضوء منها‏)‏ أي في الغسلة المتصلة بالوضوء‏.‏

وكأن المصنف أشار بذلك إلى مخالفة أبي قلابة في قوله ‏"‏ يبدأ بالرأس ثم باللحية ‏"‏ قال‏:‏ والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد أثر سمة المؤمنين في ظهور أثر الغرة والتحجيل‏.‏

*3*باب مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَيِّتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب مواضع الوضوء من الميت‏)‏ أي يستحب البداءة بها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابدؤوا‏)‏ كذا للأكثر وللكشميهني ‏"‏ ابدأن ‏"‏ وهو الوجه لأنه خطاب للنسوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومواضع الوضوء‏)‏ زاد أبو ذر ‏"‏ منها ‏"‏ واستدل به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت خلافا للحنفية، بل قالوا‏:‏ لا يستحب وضوؤه أصلا، وإذا قلنا باستحبابه فهل يكون وضوءا حقيقيا بحيث يعاد غسل تلك لأعضاء في الغسل أو جزءا من الغسل بدئت به هذه الأعضاء تشريفا‏؟‏ الثاني أظهر من سياق الحديث، والبداءة بالميامن وبمواضع الوضوء مما زادته حفصة في روايتها عن أم عطية على أخيها محمد، وكذا المشط والضفر كما سيأتي‏.‏

*3*باب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي إِزَارِ الرَّجُلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل‏)‏ أورد فيه حديث أم عطية أيضا‏.‏

وشاهد الترجمة قوله فيه ‏"‏ فأعطاها إزاره ‏"‏ قال ابن رشيد‏:‏ أشار بقوله ‏"‏ هل ‏"‏ إلى تردد عنده في المسألة، فكأنه أومأ إلى احتمال اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن المعنى الموجود فيه من البركة ونحوها قد لا يكون في غيره ولا سيما مع قرب عهده بعرقه الكريم، ولكن الأظهر الجواز، وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك، لكن لا يلزم من ذلك التعقب على البخاري لأنه إنما ترجم بالنظر إلى سياق الحديث وهو قابل للاحتمال‏.‏

وقال الزين بن المنير نحوه وزاد احتمال الاختصاص بالمحرم أم بمن يكون في مثل إزار النبي صلى الله عليه وسلم وجسده من تحقق النظافة وعدم نفرة الزوج وغيرته أن تلبس زوجته لباس غيره‏.‏

*3*باب يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي آخِرِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يجعل الكافور في الأخيرة‏)‏ أي في الغسلة الأخيرة، قال الزين بن المنير‏:‏ لم يعين حكم ذلك لاحتمال صيغة ‏"‏ اجعلن ‏"‏ للوجوب والندب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَحْوِهِ وَقَالَتْ إِنَّهُ قَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ قَالَتْ حَفْصَةُ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن أيوب‏)‏ هو معطوف على الإسناد الأول، وقد تقدم الكلام عليه فيما قبل‏.‏

واختلف في هيئة جعله في الغسلة الأخيرة فقيل‏:‏ يجعل في ماء ويصب عليه في آخر غسلة وهو ظاهر الحديث، وقيل‏:‏ إذا كما غسله طيب بالكافور قبل التكفين‏.‏

ومد ورد في رواية النسائي بلفظ ‏"‏ واجعلن في آخر ذلك كافورا‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قيل ما مناسبة إدخال هذه الترجمة - وهي متعلقة بالغسل - بين ترجمتين متعلقتين بالكفن‏؟‏ أجاب الزين بن المنير بأن العرف تقديم ما يحتاج إليه الميت قبل الشروع في الغسل أو قبل الفراغ منه ليتيسر غسله‏.‏

ومن جملة ذلك الحنوط انتهى ملخصا‏.‏

ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى خلاف من قال إن الكافور يختص بالحنوط ولا يجعل في الماء وهو عن الأوزاعي وبعض الحنفية، أو يجعل في الماء وهو قول الجمهور كما تقدم قريبا‏.‏

ولفظة ‏"‏ الأخيرة ‏"‏ صفة موصوف فيحتمل أن يكون التقدير الغسلة وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون الخرقة التي تلي الجسد‏.‏

*3*باب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَيِّتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب نقض شعر المرأة‏)‏ أي الميتة قبل الغسل، والتقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب أو الأكثر، وإلا فالرجل إذا كان له شعر ينقض لأجل التنظيف وليبلغ الماء البشرة، وذهب من منعه إلى أنه قد يفضي إلى انتتاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يضم إلى ما انتثر منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن سيرين إلخ‏)‏ وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَيُّوبُ وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قَالَتْ حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أحمد‏)‏ كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن شبويه عن الفربري ‏"‏ أحمد بن صالح‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أيوب‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق حرملة عن ابن وهب عن ابن جريج ‏"‏ أن أيوب بن أبي تميمة أخبره‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وسمعت‏)‏ هو معطوف على محذوف تقديره سمعت كذا وسمعت حفصة، وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنهن جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ قالت نقضته ‏"‏ والظاهر أن القائلة أم عطية، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب في هذا الحديث ‏"‏ فقلت نقضته فغسلته فجعلته ثلاثة قرون قالت نعم ‏"‏ والمراد بالرأس شعر الرأس فهو من مجاز المجاورة، وفائدة النقض تبليغ الماء البشرة وتنظيف الشعر من الأوساخ‏.‏

ولمسلم من رواية أيوب عن حفصة عن أم عطية ‏"‏ مشطناها ثلاثة قرون ‏"‏ وهو بتخفيف المعجمة أي سرحناها بالمشط، وفيه حجة للشافعي ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، واعتل من كرهه بتقطيع الشعر، والرفق يؤمن معه ذلك‏.‏

*3*باب كَيْفَ الْإِشْعَارُ لِلْمَيِّتِ

وَقَالَ الْحَسَنُ الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كيف الإشعار للميت‏)‏ أورد فيه حديث أم عطية أيضا، وإنما أفرد له هذه الترجمة لقوله في هذا السياق ‏"‏ وزعم أن الإشعار الففنها فيه ‏"‏ وفيه اختصار والتقدير وزعم أن معنى قوله أشعرنها إياها الففنها، وهو ظاهر اللفظ، لأن الشعار ما يلي الجسد من الثياب‏.‏

والقائل في هذه الرواية ‏"‏ وزعم ‏"‏ هو أيوب‏.‏

وذكر ابن بطال أنه ابن سيرين، والأول أولى، ومد بينه عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج قال ‏"‏ قلت لأيوب قوله أشعرنها تؤزر به‏؟‏ قال‏:‏ ما أراه إلا قال الففنها فيه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن الخرقة الخامسة إلخ‏)‏ هذا يدل على أن أول الكلام أن المرأة تكفن في خمسة أثواب‏.‏

وقد وصله ابن أبي شيبة نحوه‏.‏

وروى الجوزقي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام عن حفصة عن أم عطية قالت ‏"‏ فكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي ‏"‏ وهذه الزيادة صحيحة الإسناد، وقول الحسن في الخرقة الخامسة قال به زفر‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تشد على صدرها لتضم أكفانها، وكأن المصنف أشار إلى موافقة قول زفر‏:‏ ولا يكره القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية والحنابلة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ يَقُولُ جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ الْبَصْرَةَ تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ فَحَدَّثَتْنَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ وَزَعَمَ أَنَّ الْإِشْعَارَ الْفُفْنَهَا فِيهِ وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلَا تُؤْزَرَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أحمد‏)‏ كذا للأكثر غير منسوب‏.‏

وقال أبو علي بن شبويه في روايته ‏"‏ حدثنا أحمد يعني ابن صالح‏"‏‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ ولا أدري أي بناته ‏"‏ هو مقول أيوب، وفيه دليل على أنه لم يسمع تسميتها من حفصة، وقد تقدم قريبا من وجه آخر عنه أنها أم كلثوم‏.‏

*3*باب هَلْ يُجْعَلُ شَعَرُ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون‏)‏ أي ضفائر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَقَالَ وَكِيعٌ قَالَ سُفْيَانُ نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو الثوري، وهشام هو ابن حسان، وأم الهذيل هي حفصة بنت سيرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضفرنا‏)‏ بضاد ساقطة وفاء خفيفة ‏(‏شعر بنت النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ تعني ثلاثة قرون‏.‏

وقال وكيع قال سفيان‏)‏ أي بهذا الإسناد ‏(‏ناصيتها وقرنيها‏)‏ أي جانبي رأسها، ورواية وكيع وصلها الإسماعيلي بهذه الزيادة وزاد ‏"‏ ثم ألقيناه خلفها ‏"‏ وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في الباب الذي يليه‏.‏

واستدل به على ضفر شعر الميت خلافا لمن منعه، فقال ابن القاسم‏:‏ لا أعرف الضفر بل يكف وعن الأوزاعي والحنفية‏:‏ يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقا‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وكأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية هل استندت فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعا، أو هو شيء رأته ففعلته استحسانا‏؟‏ كلا الأمرين محتمل، لكن الأصل أن لا يفعل في الميت شيء من جنس القرب إلا بإذن من الشرع محقق ولم يرد ذلك مرفوعا، كذا قال‏.‏

وقال النووي الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره له‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر من رواية هشام عن حفصة عن أم عطية قالت ‏"‏ قال لنا رسول الله‏:‏ اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر ‏"‏ وقال ابن حبان في صحيحه‏:‏ ذكر البيان بأن أم عطية إنما مشطت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم بأمره لا من تلقاء نفسها ثم أخرج من طريق حماد عن أيوب قال‏:‏ قالت حفصة عن أم عطية اغسلنها ثلاثة أو خمسا أو سبعا واجعلن لها ثلاثة قرون‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ ثلاثة قرون ‏"‏ مع قوله‏:‏ ‏"‏ ناصيتها وقرنيها ‏"‏ لا تضاد بينهما، لأن المراد بالثلاثة قرون الضفائر، والمراد بالقرنين الجانبان‏.‏

*3*باب يُلْقَى شَعَرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يلقى شعر المرأة خلفها‏)‏ في رواية الأصيلي وأبي الوقت ‏"‏ يجعل ‏"‏ وزاد الحموي ‏"‏ ثلاثة قرون ‏"‏ ثم أورد المصنف حديث أم عطية من رواية هشام بن حسان عن حفصة وفيه ‏"‏ فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها ‏"‏ أخرجه مسدد عن يحيى بن سعيد، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بلفظ ‏"‏ ومشطناها ‏"‏ وقد تقدم ذلك من رواية الثوري عن هشام أيضا، وعند عبد الرزاق من طريق أيوب عن حفصة ‏"‏ ضفرنا رأسها ثلاثة قرون ناصيتها وقرنيها وألقيناه إلى خلفها ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ فيه استحباب تسريح المرأة وتضفيرها، وزاد بعض الشافعية أن تجعل الثلاث خلف ظهرها، وأورد فيه حديثا غريبا، كذا قال وهو مما يتعجب منه مع كون الزيادة في صحيح البخاري، وقد توبع راويها عليها كما تراه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ قَالَ حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا

الشرح‏:‏

في هذا الحديث من الفوائد - غير ما تقدم في هذه التراجم العشر - تعليم الإمام من لا علم له بالأمر الذي يقع فيه، وتفويضه إليه إذا كان أهلا لذلك بعد أن ينبهه على علة الحكم‏.‏

واستدل به على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب لأنه موضع تعليم ولم يأمر به، وفيه نظر لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الواقعة‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ لا أعلم أحدا قال بوجوبه‏.‏

وكأنه ما درى أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، والخلاف فيه ثابت عند المالكية وصار إليه بعض الشافعية أيضا‏.‏

وقال ابن بزيزة‏:‏ الظاهر أنه مستحب، والحكمة فيه تتعلق بالميت، لأن الغاسل إذا علم أنه سيغتسل لم يتحفظ من شيء يصيبه من أثر الغسل فيبالغ في تنظيف الميت وهو مطمئن، ويحتمل أن يتعلق بالغاسل ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده مما لعله أن يكون أصابه من رشاش ونحوه انتهى واستدل به بعض الحنفية على أن الزوج لا يتولى غسل زوجته، لأن زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم النسوة بغسل ابنته دون الزوج، وتعقب بأنه يتوقف على صحة دعوى أنه كان حاضرا، وعلى تقدير تسليمه فيحتاج إلى ثبوت أنه لم يكن به مانع من ذلك ولا آثر النسوة على نفسه، وعلى تسليمه فغاية ما فيه أن يستدل به على أن النسوة أولى منه لا على منعه من ذلك لو أراده‏.‏

والله أعلم بالصواب‏.‏

*3*باب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الثياب البيض للكفن‏)‏ أورد فيه حديث عائشة ‏"‏ كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض ‏"‏ الحديث، وتقرير الاستدلال به أن الله لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الحديث الصريح في الباب وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس بلفظ ‏"‏ البسوا ثياب البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم ‏"‏ صححه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة بن جندب أخرجوه وإسناده صحيح أيضا، وحكى بعض من صنف في الخلاف عن الحنفية أن المستحب عندهم أن يكون في أحدها ثوب حبرة، وكأنهم أخذوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثوبين وبرد حبرة أخرجه أبو داود من حديث جابر وإسناده حسن، لكن روى مسلم والترمذي من حديث عائشة أنهم نزعوها عنه، قال الترمذي‏:‏ وتكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصح ما ورد في كفنه‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة ‏"‏ لف في برد حبرة جفف فيه ثم نوع عنه ‏"‏ يمكن أن يستدل لهم بعموم حديث أنس ‏"‏ كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة ‏"‏ أخرجه الشيخان، وسيأتي في اللباس‏.‏

والحبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة ما كان من البرود مخططا‏.‏

*3*باب الْكَفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكفن في ثوبين‏)‏ كأنه أشار إلى أن الثلاث في حديث عائشة ليست شرطا في الصحة، وإنما هو مستحب وهو قول الجمهور‏.‏

واختلف فيما إذا شح بعض الورثة بالثاني أو الثالث، والمرجح أنه لا يلتفت إليه‏.‏

وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بد منه بالاتفاق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا حماد‏)‏ في رواية الأصيلي ‏"‏ ابن زيد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بينما رجل‏)‏ لم أقف على تسميته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واقف‏)‏ استدل به على إطلاق لفظ الواقف على الراكب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعرفة‏)‏ سيأتي بعد باب من وجه آخر ‏"‏ ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوقصته، أو قال فأوقصته‏)‏ شك من الراوي، والمعروف عند أهل اللغة الأول والذي بالهمز شاذ، والوقص كسر العنق، ويحتمل أن يكون فاعل وقصته الوقعة أو الراحلة بأن تكون أصابته بعد أن وقع والأول أظهر‏.‏

وقال الكرماني فوقصته أي راحلته فإن كان الكسر حصل بسبب الوقوع فهو مجاز، وإن حصل من الراحلة بعد الوقوع فحقيقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكفنوه في ثوبين‏)‏ استدل به على إبدال ثياب المحرم وليس بشيء لأنه سيأتي في الحج بلفظ ‏"‏ في ثوبيه ‏"‏ وللنسائي من طريق يونس بن نافع عن عمرو بن دينار ‏"‏ في ثوبيه اللذين أحرم فيهما ‏"‏ وقال المحب الطبري‏:‏ إنما لم يزده ثوبا ثالثا تكرمة له كما في الشهيد حيث قال ‏"‏ زملوهم بدمائهم ‏"‏ واستدل به على أن الإحرام لا ينقطع بالموت كما سيأتي بعد باب، وعلى ترك النيابة في الحج لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا أن يكمل عن هذا المحرم أفعال الحج وفيه نظر لا يخفى‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ وفيه أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رجي له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل‏.‏

*3*باب الْحَنُوطِ لِلْمَيِّتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحنوط للميت‏)‏ أي غير المحرم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَقْعَصَتْهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس المذكور في الباب ورد عن شيخ آخر، وشاهد الترجمة قوله ‏"‏ ولا تحنطوه ‏"‏ ثم علل بأنه يبعث ملبيا، فدل على أن سبب النهي أنه كان محرما، فإذا انتفت العلة انتفى النهي، وكأن الحنوط للميت كان مقررا عندهم‏.‏

وكذا قوله ‏"‏ لا تخمروا رأسه ‏"‏ أي لا تغطوه، قال البيهقي‏:‏ فيه دليل على أن غير المحرم يحنط كما يخمر رأسه، وأن النهي إنما وقع لأجل الإحرام خلافا لمن قال من المالكية غيرهم إن الإحرام ينقطع بالموت فيصنع بالميت ما يصنع بالحي، قال ابن دقيق العيد‏:‏ وهو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن ثبت يقدم على القياس، وقد قال بعض المالكية‏:‏ إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال يتطرق الاحتمال إلى منطوقها فلا يستدل بمفهومها‏.‏

وقال بعض الحنفية‏:‏ هذا الحديث ليس عاما بلفظه لأنه في شخص معين، ولا بمعناه لأنه لم يقل يبعث ملبيا لأنه محرم فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل‏.‏

وقال ابن بزيزة‏:‏ وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث ملبيا شهادة بأن حجه قبل، وذلك غير محقق لغيره، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام فتعم كل محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيب‏.‏

واعتل بعضهم بقوله تعالى ‏(‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏)‏ وبقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ‏"‏ وليس هذا منها فينبغي أن ينقطع عمله بالموت، وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحي بعده كغسله والصلاة عليه فلا معنى لما ذكروه‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم في الشهداء ‏"‏ زملوهم بدمائهم ‏"‏ مع قوله ‏"‏ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ‏"‏ فعمم الحكم في الظاهر بناء على ظاهر السبب فينبغي أن يعمم الحكم في كل محرم، وبين المجاهد والمحرم جامع لأن كلا منهما في سبيل الله‏.‏

وقد اعتذر الداودي عن مالك فقال‏:‏ لم يبلغه هذا الحديث، وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيا لوجب أن يكمل به المناسك ولا قائل به‏.‏

وأجيب بأن ذلك ورد على خلافه الأصل فيقتصر به على مورد النص ولا سيما وقد وضح، أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد‏.‏

*3*باب كَيْفَ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كيف يكفن المحرم‏)‏ سقطت هذه الترجمة للأصيلي وثبتت لغيره وهو أوجه‏.‏

وأورد المصنف فيها حديث ابن عباس المذكور من طريقين، ففي الأول ‏"‏ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ‏"‏ كذا للمستملي وللباقين ‏"‏ ملبدا ‏"‏ بدال بدل التحتانية، والتلبيد جمع الشعر بصمغ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك‏.‏

وقد أنكر عياض هذه الرواية وقال‏:‏ ليس للتلبيد معنى، وسيأتي في الحج بلفظ ‏"‏ يهل ‏"‏ ورواه النسائي بلفظ ‏"‏ فإنه يبعث يوم القيامة محرما ‏"‏ لكن ليس قوله ملبدا فاسد المعنى بل توجيهه ظاهر‏.‏

قوله في الرواية الأخرى ‏(‏كان رجل واقفا‏)‏ كذا لأبي ذر وللباقين ‏"‏ واقف ‏"‏ على أنه صفة لرجل، وكان تامة أي حصل رجل واقف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ولا تمسوه‏)‏ بضم أوله وكسر الميم من أمس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ كَانَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَوَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ قَالَ أَيُّوبُ فَوَقَصَتْهُ وَقَالَ عَمْرٌو فَأَقْصَعَتْهُ فَمَاتَ فَقَالَ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَيُّوبُ يُلَبِّي وَقَالَ عَمْرٌو مُلَبِّيًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأقصعته‏)‏ أي هشمته يقال أقصع القملة إذا هشمها، وقيل هو خاص بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرقبة‏.‏

وفي رواية الكشميهني بتقديم العين على الصاد، والقعص القتل في الحال ومنه قعاص الغنم وهو موتها‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ تضمنت هذه الترجمة الاستفهام عن الكيفية مع أنها مبينة، لكنها لما كانت تحتمل أن تكون خاصة بذلك الرجل، وأن تكون عامة لكل محرم، آثر المصنف الاستفهام‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر أن المراد بقوله ‏"‏ كيف يكفن ‏"‏ أي كيفية التكفين ولم يرد الاستفهام، وكيف يظن به أنه متردد فيه وقد جزم قبل ذلك بأنه عام في حق كل أحد حيث ترجم بجواز التكفين في ثوبين‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ في حديث ابن عباس إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافا لمن كرهه له، وأن الوتر في الكفن ليس بشرط في الصحة، وأن الكفن من رأس المال لأمره صلى الله عليه وسلم بتكفينه في ثوبيه ولم يستفصل هل عليه دين يستغرق أم لا‏.‏

وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأن إحرامه باق، وأنه لا يكفن في المخيط‏.‏

وفيه التعليل بالفاء لقوله فإنه، وفيه التكفين في الثياب الملبوسة، وفيه استحباب دوام التلبية إلى أن ينتهي الإحرام، وأن الإحرام يتعلق بالرأس لا بالوجه، وسيأتي الكلام على ما وقع في مسلم بلفظ ‏"‏ ولا تخمروا وجهه ‏"‏ في كتاب الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

وأغرب القرطبي فحكى عن الشافعي أن المحرم لا يصلي عليه، وليس ذلك بمعروف عنه‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ يحتمل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما‏.‏

*3*باب الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لَا يُكَفُّ وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف‏)‏ قال ابن التين‏:‏ ضبط بعضهم يكف بضم أوله وفتح الكاف وبعضهم بالعكس، والفاء مشدودة فيهما‏.‏

وضبطه بعضهم بفتح أوله وسكون الكاف وتخفيف الفاء وكسرها، والأول أشبه بالمعنى‏.‏

وتعقبه ابن رشيد بأن الثاني هو الصواب قال‏:‏ وكذا وقع في نسخة حاتم الطرابلسي، وكذا رأيته في أصل أبي القاسم بن الورد، قال‏:‏ والذي يظهر لي أن البخاري لحظ قوله تعالى ‏(‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏)‏ أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه سواء كان يكف عنه العذاب أو لا يكف استصلاحا للقلوب المؤلفة، فكأنه يقول يؤخذ من هذا التبرك بآثار الصالحين سواء علمنا أنه مؤثر في حال الميت أو لا‏.‏

قال‏:‏ ولا يصح أن يراد به سواء كان الثوب مكفوف الأطراف أو غير مكفوف لأن ذلك وصف لا أثر له، قال‏:‏ وأما الضبط الثالث فهو لحن إذ لا موجب لحذف الياء الثانية فيه انتهى‏.‏

وقد جزم المهلب بأنه الصواب، وأن الياء سقطت من الكاتب غلطا، قال ابن بطال‏:‏ والمراد طويلا كان القميص سابغا أو قصيرا فإنه يجوز أن يكفن فيه، كذا قال، ووجهه بعضهم بأن عبد الله كان مفرط الطول كما سيأتي في ذكر السبب في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له قميصه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق، وقد أعطاه مع ذلك قميصه ليكفن فيه ولم يلتفت إلى كونه ساترا لجميع بدنه أو لا‏.‏

وتعقب بأن حديث جابر دال على أنه كفن في غيره فلا تنتهض الحجة بذلك‏.‏

وأما قول ابن رشيد إن المكفوف الأطراف لا أثر له فغير مسلم، بل المتبادر إلى الذهن أنه مراد البخاري كما فهمه ابن التين، والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعا سواء كان مكفوف الأطراف أو غير مكفوف، أو المراد بالكف تزريره دفعا لقول من يدعي أن القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة أو كان غير مزرر ليشبه الرداء، وأشار بذلك إلى الرد على من خالف في ذلك، وإلى أن التكفين في غير قميص مستحب، ولا يكره التكفين في القميص‏.‏

وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون قال‏:‏ كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا، وسيأتي الكلام على حديث عبد الله بن عمر في قصة عبد الله بن أبي في تفسير براءة إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه جواب الإشكال الواقع في قول عمر‏:‏ أليس الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين‏؟‏ مع أن نزول قوله تعالى ‏(‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏)‏ كان بعد ذلك كما سيأتي في سياق حديث الباب حيث قال‏:‏ فنزلت ‏(‏ولا تصل‏)‏ ، ومحصل الجواب أن عمر فهم من قوله ‏(‏فلن يغفر الله لهم‏)‏ منع الصلاة عليهم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن لا منع، وأن الرجاء لم ينقطع بعد‏.‏

ثم إن ظاهر قوله في حديث جابر ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه ‏"‏ مخالف لقوله في حديث ابن عمر ‏"‏ لما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه فقال‏:‏ يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه قميصه وقال‏:‏ آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر ‏"‏ الحديث‏.‏

وقد جمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر ‏"‏ فأعطاه ‏"‏ أي أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم العطية مجازا لتحقيق وقوعها‏.‏

وكذا قوله في حديث جابر ‏"‏ بعد ما دفن عبد الله بن أبي ‏"‏ أي دلي في حفرته، وكأن أهل عبد الله بن أبي خشوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في حضوره فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قميصيه أولا، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده‏.‏

وفي ‏"‏ الإكليل ‏"‏ للحاكم ما يؤيد ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه من القبر، لأن لفظه ‏"‏ فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه ‏"‏ والواو لا ترتب فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه له من غير إرادة ترتيب، وسيأتي في الجهاد ذكر السبب في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله بن أبي، وبقية القصة في التفسير وأن اسم ابنه المذكور عبد الله كاسم أبيه إن شاء الله تعالى‏.‏

واستنبط منه الإسماعيلي جواز طلب أثار أهل الخير منهم للتبرك بها وإن كان السائل غنيا‏.‏

*3*باب الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكفن بغير قميص‏)‏ ثبتت هذه الترجمة للأكثر وسقطت للمستملي، ولكنه ضمنها الترجمة التي قبلها فقال بعد قوله أو لا يكف ‏"‏ ومن كفن بغير قميص ‏"‏ والخلاف في هذه المسألة بين الحنفية وغيرهم في الاستحباب وعدمه، والثاني عن الجمهور، وعن بعض الحنفية يستحب القميص دون العمامة‏.‏

وأجاب بعض من خالف بأن قولها ليس فيها قميص ولا عمامة يحتمل نفي وجودهما جملة، ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود أي الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة والأول أظهر‏.‏

وقال بعض الحنفية‏:‏ معناه ليس فيها قميص أي جديد، وقيل ليس فيها القميص الذي غسل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف الأطراف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابِ سُحُولٍ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏.‏

‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سحول‏)‏ بضم المهملتين وآخره لام أي بيض، وهو جمع سحل، والثوب الأبيض النقي لا يكون إلا من قطن، وقد تقدم في ‏"‏ باب الثياب البيض للكفن ‏"‏ بلفظ ‏"‏ يمانية بيض سحولية في كرسف ‏"‏ وعن ابن وهب‏:‏ السحول القطن، وفيه نظر، وهو بضم أوله ويروى بفتحه نسبة إلى سحول قرية باليمن‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ بالفتح المدينة، وبالضم الثياب‏.‏

وقيل النسب إلى القرية بالضم، وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لأنه يسحل الثياب أي ينقيها، والكرسف بضم الكاف والمهملة بينهما راء ساكنة هو القطن، ووقع في رواية للبيهقي ‏"‏ سحولية جدد‏"‏

*3*باب الْكَفَنِ بِلَا عِمَامَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكفن بلا عمامة‏)‏ كذا للأكثر، وللمستملي ‏"‏ الكفن في الثياب البيض ‏"‏ والأول أولى لئلا تتكرر الترجمة بغير فائدة، وقد تقدم ما في هذا النفي في الباب الذي قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاثة أثواب‏)‏ في طبقات ابن سعد عن الشعبي ‏"‏ إزار ورداء ولفافة‏"‏‏.‏

*3*باب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ وَقَالَ سُفْيَانُ أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنْ الْكَفَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكفن من جميع المال‏)‏ أي من رأس المال، وكأن المصنف راعى لفظ حديث مرفوع ورد بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث علي وإسناده ضعيف، وذكره ابن أبي حاتم في العلل من حديث جابر، وحكى عن أبيه أنه منكر، قال ابن المنذر‏:‏ قال بذلك جميع أهل العلم إلا رواية شاذة عن خلاس بن عمرو قال ‏"‏ الكفن من الثلث ‏"‏ وعن طاوس قال ‏"‏ من الثلث إن كان قليلا ‏"‏ قلت‏:‏ أخرجهما عبد الرزاق، وقد يرد على هذا الإطلاق ما استثناه الشافعية وغيرهم من الزكاة وسائر ما يتعلق بعين المال فإنه يقدم على الكفن وغيره من مؤنة تجهيزه كما لو كانت التركة شيئا مرهونا أو عبدا جانيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبه قال عطاء والزهري وعمرو بن دينار وقتادة‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ الحنوط من جميع المال‏)‏ أما قول عطاء فوصله الدارمي من طريق ابن المبارك عن ابن جريج عنه قال ‏"‏ الحنوط والكفن من رأس المال‏"‏، وأما قول الزهري وقتادة فقال عبد الرزاق ‏"‏ أخبرنا معمر عن الزهري وقتادة قالا‏:‏ الكفن من جميع المال ‏"‏ وأما قول عمرو بن دينار فقال عبد الرزاق ‏"‏ عن ابن جريج عن عطاء‏:‏ الكفن والحنوط من رأس المال ‏"‏ قال ‏"‏ وقاله عمرو بن دينار ‏"‏ وقوله ‏"‏ وقال إبراهيم ‏"‏ - يعني النخعي - يبدأ بالكفن ثم بالدين ثم بالوصية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سفيان‏)‏ أي الثوري إلخ وصله الدارمي من قول النخعي كذلك دون قول سفيان، ومن طريق أخرى عن النخعي بلفظ ‏"‏ الكفن من جميع المال ‏"‏ وصله عبد الرزاق عن سفيان أي الثوري عن عبيدة بن معتب عن إبراهيم قال ‏"‏ فقلت لسفيان‏:‏ فأجر القبر والغسل‏؟‏ قال‏:‏ هو من الكفن ‏"‏ أي أجر حفر القبر وأجر الغاسل من حكم الكفن في أنه من رأس المال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أحمد بن محمد المكي‏)‏ هو الأزرقي على الصحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعد‏)‏ أي ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فإبراهيم بن سعد في هذا الإسناد راو عن أبيه عن جده عن جد أبيه، وسيأتي سياقه في الباب الذي يليه أصرح اتصالا من هذا‏.‏

ويأتي الكلام على فوائده مستوفي في ‏"‏ باب غزوة أحد ‏"‏ من كتاب المغازي، وشاهد الترجمة منه قوله في الحديث ‏"‏ فلم يوجد له ‏"‏ لأن ظاهره أنه لم يوجد ما يملكه إلا البرد المذكور، ووقع في رواية الأكثر ‏"‏ إلا برده ‏"‏ بالضمير العائد عليه‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ إلا بردة ‏"‏ بلفظ واحدة البرود، وسيأتي حديث خباب في الباب الذي بعده بلفظ ‏"‏ ولم يترك إلا نمرة ‏"‏ واختلف فيما إذا كان عليه دين مستغرق هل يكون كفنه ساترا لجميع بدنه أو للعورة فقط‏؟‏ المرجح الأول، ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يجزئ ثوب واحد يصف ما تحته من البدن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو رجل آخر‏)‏ لم أقف على اسمه، ولم يقع في أكثر الروايات إلا بذكر حمزة ومصعب فقط، وكدا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق منصور بن أبي مزاحم عن إبراهيم بن سعد‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ يستفاد من قصة عبد الرحمن إيثار الفقر على الغني وإيثار التخلي للعبادة على تعاطي الاكتساب، فلذلك امتنع من تناول ذلك الطعام مع أنه كان صائما‏.‏

*3*باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد‏)‏ أي اقتصر عليه ولا ينتظر بدفنه ارتقاب شيء آخر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ

الشرح‏:‏

قول عبد الرحمن بن عوف ‏"‏ وهو خير مني ‏"‏ دلالة على تواضعه‏.‏

وفيه إشارة إلى تعظيم فضل من قتل في المشاهد الفاضلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في هذا الطريق ‏"‏ إن غطى رأسه بدت رجلاه ‏"‏ وهو موافق لما في الرواية التي في الباب الذي يليه‏.‏

وروى الحاكم في المستدرك من حديث أنس أن حمزة أيضا كفن كذلك‏.‏

*3*باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلَّا مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه‏)‏ أي رأسه مع بقية جسده إلا قدميه أو العكس، كأنه قال‏:‏ ما يواري جسده إلا رأسه، أو جسده إلا قدميه، وذلك بين من حديث الباب حيث قال ‏"‏ خرجت رجلاه ‏"‏ ولو كان المراد أنه يغطي رأسه فقط دون سائر جسده لكان تغطية العورة أولى‏.‏

ويستفاد منه أنه إذا لم يوجد ساتر البتة أنه يغطي جميعه بإذخر، فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض، وسيأتي في كتاب الحج قول العباس ‏"‏ إلا الإذخر فإنه بيوتنا وقبورنا ‏"‏ فكأنها كانت عادة لهم استعماله في القبور، قال المهلب‏:‏ وإنما استحب لهم النبي صلى الله عليه وسلم التكفين في تلك الثياب التي ليست سابغة لأنهم قتلوا فيها انتهى‏.‏

وفي هذا الجزم نظر، بل الظاهر أنه لم يجد لهم غيرها كما هو مقتضى الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا شقيق‏)‏ هو ابن سلمة أبو وائل، وخباب بمعجمة وموحدتين الأولى مثقلة هو ابن الأرت، والإسناد كله كوفيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يأكل من أجره شيئا‏)‏ كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح، وكأن المراد بالأجر ثمرته، فليس مقصورا على أجر الآخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أينعت‏)‏ بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون أي نضجت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهو يهد بها‏)‏ بفتح أوله وكسر المهملة أي يجتنيها، وضبطه النووي بضم الدال، وحكى ابن التين تثليثها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما نكفنه به‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ به ‏"‏ من رواية غير أبي ذر، وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَنْ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه‏)‏ ضبط في روايتنا بفتح الكاف على البناء للمجهول وحكي الكسر على أن فاعل الإنكار النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى الزين بن المنير عن بعض الروايات فلم ينكره بهاء بدل عليه وهو بمعني الرواية التي بالكسر، وإنما قيد الترجمة بذلك ليشير إلى أن الإنكار الذي وقع من الصحابة كان على الصحابي في طلب البردة فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا ذلك عليه، فيستفاد منه جواز تحصيل ما لا بد للميت منه من كفن ونحوه في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حفر القبر‏؟‏ فيه بحث سيأتي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا الشَّمْلَةُ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن امرأة‏)‏ لم أقف على اسمها‏.‏

قوله ‏(‏فيها حاشيتها‏)‏ قال الداودي يعني إنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية‏.‏

وقال غيره حاشية الثوب هدبه فكأنه قال إنها جديدة لم يقطع هدبها ولم تلبس بعد‏.‏

وقال القزاز‏:‏ حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتدرون‏)‏ هو مقول سهل بن سعد بينه أبو غسان عن أبي حازم كما أخرجه المصنف في الأدب ولفظه ‏"‏ فقال سهل للقوم أتدرون ما البردة‏؟‏ قالوا‏:‏ الشملة‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

وفي تفسير البردة بالشملة تجوز لأن البردة كساء والشملة ما يشتمل به فهي أعم، لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها‏.‏

قوله ‏(‏فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها‏)‏ كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال أو تقدم قول صريح‏.‏

قوله ‏(‏فخرج إلينا وإنها إزاره‏)‏ في رواية ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد العزيز ‏"‏ فخرج إلينا فيها ‏"‏ وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني ‏"‏ فاتزر بها ثم خرج‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحسنها فلان فقال اكسنيها ما أحسنها‏)‏ كذا في جميع الروايات هنا بالمهملتين من التحسين‏.‏

وللمصنف في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم ‏"‏ فجسها ‏"‏ بالجيم بغير نون وكذا للطبراني والإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي حازم، وقوله ‏"‏فلان ‏"‏ أفاد المحب الطبري في الأحكام له أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني ولم أره في المعجم الكبير لا في مسند سهل ولا عبد الرحمن، ونقله شيخنا ابن الملقن عن المحب في شرح العمدة، وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيتمي إنه وقف عليه، لكن لم يستحضر مكانه، ووقع لشيخنا ابن الملقن في ‏"‏ شرح التنبيه ‏"‏ أنه سهل بن سعد وهو غلط فكأنه التبس على شيخنا اسم القائل باسم الراوي، نعم أخرج الطبراني الحديث المذكور عن أحمد بن عبد الرحمن بن يسار عن قتيبة بن سعيد عن يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل وقال في آخره ‏"‏ قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص ‏"‏ انتهى، وقد أخرجه البخاري في اللباس والنسائي في الزينة عن قتيبة ولم يذكرا عنه ذلك، وقد رواه ابن ماجة بسنده المتقدم وقال فيه ‏"‏ فجاء فلان رجل سماه يومئذ ‏"‏ وهو دال على أن الراوي كان ربما سماه‏.‏

ووقع في رواية أخرى للطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال تعددت القصة على ما فيه من بعد والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أحسنها‏)‏ بنصب النون وما للتعجب‏.‏

وفي رواية ابن ماجه والطبراني من هذا الوجه قال نعم فلما دخل طواها وأرسل بها إليه، وهو للمصنف في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن بلفظ ‏"‏ فقال نعم فجلس ما شاء الله في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال القوم ما أحسنت‏)‏ ما نافية، وقد وقعت تسمية المعاتب له من الصحابة في طريق هشام بن سعد المذكورة ولفظه قال سهل فقلت للرجل لم سألته وقد رأيت حاجته إليها‏؟‏ فقال‏:‏ رأيت ما رأيتم، ولكن أردت أن أخبأها حتى أكفن فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه لا يرد‏)‏ كذا وقع هنا بحذف المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ ‏"‏ لا يرد سائلا ‏"‏ ونحوه في رواية يعقوب في البيوع‏.‏

وفي رواية أبي غسان في الأدب لا يسأل شيئا فيمنعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما سألته لألبسها‏)‏ في رواية أبي غسان ‏"‏ فقال رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأفاد الطبراني في رواية زمعة بن صالح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن تفرغ‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وسعة جوده وقبوله الهدية، واستنبط منه المهلب جواز ترك مكافأة الفقير على هديته، وليس ذلك بظاهر منه فإن المكافأة كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة فلا يلزم من السكوت عنها هنا أن لا يكون فعلها، بل ليس في سياق هذا الحديث الجزم بكون ذلك كان هدية فيحتمل أن تكون عرضتها عليه ليشتريها منها، قال‏:‏ وفيه جواز الاعتماد على القرائن ولو تجردت لقولهم ‏"‏ فأخذها محتاجا إليها ‏"‏ وفيه نظر لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قول يدل على ذلك كما تقدم‏.‏

قال‏:‏ وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه إذا كان ماهرا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبته إليها إزالة ما يخشى من التدليس‏.‏

وفيه جواز استحسان الإنسان ما يراه على غيره من الملابس وغيرها إما ليعرفه قدرها وأما ليعرض له بطلبه منه حيث يسوغ له ذلك‏.‏

وفيه مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهرا وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم‏.‏

وفيه التبرك بآثار الصالحين وقال ابن بطال‏.‏

فيه جواز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه، قال‏:‏ وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت‏.‏

وتعقبه الزين بن المنير بأن ذلك لم يقع من أحد من الصحابة، قال‏:‏ ولو كان مستحبا لكثر فيهم‏.‏

وقال بعض الشافعية‏:‏ ينبغي لمن استعد شيئا من ذلك أن يجتهد في تحصيله من جهة يثق بحلها أو من أثر من يعتقد فيه الصلاح والبركة‏.‏

*3*باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب اتباع النساء الجنازة‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ فصل المصنف بين هذه الترجمة وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء‏.‏

والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك يختص بالرجال دون النساء لأن النهي يقتضي التحريم أو الكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان‏.‏

وأطلق الحكم هنا لما يتطرق إليه من الاحتمال، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك‏.‏

ولا يخفى أن محل النزاع إنما هو حيث تؤمن المفسدة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو الثوري وأم الهذيل هي حفصة بنت سيرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهينا‏)‏ تقدم في الحيض من رواية هشام بن حسان عن حفصة عنها بلفظ ‏"‏ كنا نهينا عن اتباع الجنائز ‏"‏ ورواه يزيد بن أبي حكيم عن الثوري بإسناد هذا الباب بلفظ ‏"‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي وفيه رد على من قال‏:‏ لا حجة في هذا الحديث لأنه لم يسم الناهي فيه، لما رواه الشيخان وغيرهما أن كل ما ورد بهذه الصيغة كان مرفوعا وهو الأصح عند غيرهما من المحدثين، ويؤيد رواية الإسماعيلي ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت ‏"‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال‏:‏ إني رسول رسول الله إليكن، بعثني إليكن لأبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ‏"‏ الحديث، وفي آخره ‏"‏ وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة ‏"‏ وهذا يدل على أن رواية أم عطية الأولى من مرسل الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يعزم علينا‏)‏ أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت‏:‏ كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة‏.‏

ويدل على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال ‏"‏ دعها يا عمر ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه، ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة ورجاله ثقات‏.‏

وقال المهلب‏:‏ في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات‏.‏

وقال الداودي‏:‏ قولها ‏"‏ نهينا عن اتباع الجنائز ‏"‏ أي إلى أن نصل إلى القبور، وقوله ‏"‏ولم يعزم علينا ‏"‏ أي أن لا نأتي أهل الميت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أن نتبع جنازته انتهى‏.‏

وفي أخذ هذا التفصيل من هذا السياق نظر، نعم هو في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة مقبلة فقال‏:‏ من أين جئت‏؟‏ فقالت‏:‏ رحمت على أهل هذا الميت ميتهم‏.‏

فقال‏:‏ لعلك بلغت معهم الكدى‏؟‏ قالت‏:‏ لا ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما‏.‏

فأنكر عليها بلوغ الكدى، وهو بالضم وتخفيف الدال المقصورة وهي المقادير، ولم ينكر عليها التعزية‏.‏

وقال المحب الطبري‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بقولها ‏"‏ ولم يعزم علينا ‏"‏ أي كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباعها بحصول القيراط ونحو ذلك، والأول أظهر‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إحداد المرأة على غير زوجها‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ الإحداد بالمهملة امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع‏.‏

وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبا لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه من تلك الحال، وسيأتي قي كتاب الطلاق بقية الكلام على مباحث الإحداد‏.‏

وقوله في الترجمة ‏"‏ على غير زوجها ‏"‏ يعم كل ميت غير الزوج سواء كان قريبا أو أجنبيا، ودلالة الحديث له ظاهرة، ولم يقيده في الترجمة بالموت لأنه يختص به عرفا، ولم يبين حكمه لأن الخبر دل على عدم التحريم في الثلاث وأقل ما يقتضيه إثبات المشروعية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ تُوُفِّيَ ابْنٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَّا بِزَوْجٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما كان يوم الثالث‏)‏ كذا للأكثر وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وللمستملي ‏"‏ اليوم الثالث‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏دعت بصفرة‏)‏ سيأتي الكلام عليها قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهينا‏)‏ رواه أيوب عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ أمرنا بأن لا نحد على هالك فوق ثلاث ‏"‏ الحديث أخرجه عبد الرزاق، وللطبراني من طريق قتادة عن ابن سيرين عن أم عطية قالت ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكره معناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن نحد‏)‏ بضم أوله من الرباعي، ولم يعرف الأصمعي غيره، وحكى غيره فتح أوله وضم ثانيه من الثلاثي يقال حدت المرأة وأحدت بمعنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا بزوج‏)‏ وفي رواية الكشميهني ‏"‏ إلا لزوج ‏"‏ باللام، ووقع في العدد من طريقه بلفظ ‏"‏ إلا على زوج ‏"‏ والكل بمعنى السببية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن زينب بنت أبي سلمة‏)‏ هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح في العدد بالإخبار بينها وبين حمد بن نافع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نعي‏)‏ بفتح النون وسكون المهملة وتخفيف الياء - وكسر المهملة وتشديد الياء - هو الخبر بموت الشخص، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أمية والد معاوية‏.‏

قوله ‏(‏دعت أم حبيبة‏)‏ هي بنت أبي سفيان المذكور‏.‏

وفي قوله ‏"‏ من الشام ‏"‏ نظر، لأن أبا سفيان مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار، والجمهور على أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك إلا في رواية سفيان بن عيينة هذه وأظنها وهما، وكنت أظن أنه حذف منه لفظ ‏"‏ ابن ‏"‏ لأن الذي جاء نعيه من الشام وأم حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرا على الشام، لكن رواه المصنف في العدد من طريق مالك ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن عبد الله بن بكر بن حزم عن حميد بن نافع بلفظ ‏"‏ حين توفي عنها أبوها أبو سفيان بن حرب ‏"‏ فظهر أنه لم يسقط منه شيء، ولم يقل فيه واحد منهما من الشام، وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أم حبيبة من طريق صفية بنت أبي عبيد عنها‏.‏

ثم وجدت الحديث في مسند ابن أبي شيبة قال ‏"‏ حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن حميد بن نافع - ولفظه - جاء نعي أخي أم حبيبة أو حميم لها فدعت بصفرة فلطخت به ذراعيها ‏"‏ وكذا رواه الدارمي عن هاشم بن القاسم عن شعبة لكن بلفظ ‏"‏ إن أخا لأم حبيبة مات أو حميما لها ‏"‏ ورواه أحمد عن حجاج ومحمد بن جعفر جميعا عن شعبة بلفظ ‏"‏ أن حميما لها مات ‏"‏ من غير تردد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظن عند هذا أن تكون القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة عند وفاة أخيها يزيد ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان لا مانع من ذلك‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بصفرة‏)‏ في رواية مالك المذكورة ‏"‏ بطيب فيه صفرة خلوق ‏"‏ وزاد فيه ‏"‏ فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ‏"‏ أي بعارضي نفسها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك‏.‏

وساق الحديث هنا من طريق مالك مختصرا، وأورده مطولا من طريقه في العدد كما سيأتي‏.‏

قوله ‏(‏ثم دخلت‏)‏ هو مقول زينب بنت أم سلمة، وهو مصرح به في الرواية التي في العدد وظاهره أن هذه القصة وقعت بعد قصة أم حبيبة، ولا يصح ذلك إلا إن قلنا بالتعدد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد بن أبي سفيان لأن وفاته سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة، ولا يصح أن يكون ذلك عند وفاة أبيه لأن زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيحمل على أنها لم ترد ترتيب الوقائع وإنما أرادت ترتيب الأخبار‏.‏

وقد وقع في رواية أبي داود بلفظ ‏"‏ ودخلت ‏"‏ وذلك لا يقتضي الترتيب والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حين توفي أخوها‏)‏ لم أتحقق من المراد به، لأن لزينب ثلاثة إخوة‏:‏ عبد الله وعبد يغير إضافة وعبيد الله بالتصغير، فأما الكبير فاستشهد بأحد وكانت زينب إذ ذاك صغيرة جدا لأن أباها أبا سلمة مات بعد بدر وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمها أم سلمة وهي صغيرة ترضع كما سيأتي في الرضاع أن أمها حلت من عدتها من أبي سلمة بوضع زينب هذه، فانتفى أن يكون هو المراد هنا، وإن كان وقع في كثير من الموطآت بلفظ ‏"‏ حين توفي أخوها عبد الله ‏"‏ كما أخرجه الدارقطني من طريق ابن وهب وغيره عن مالك، وأما عبد بغير إضافة فيعرفه بأبي حميد وكان شاعرا أعمى وعاش إلى خلافة عمر، وقد جزم إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة، وروى ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من وجهين أن أبا حميد المذكور حضر جنازة زينب مع عمر وحكي عنه مراجعة له بسببها، وإن كان في إسنادهما الواقدي لكن يستشهد به في مثل هذا، فانتفى أن كون هذا الأخير المراد، وأما عبيد الله المصغر فأسلم قديما وهاجر بزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة ثم تنصر هناك ومات فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعده أم حبيبة، فهذا يحتمل أن يكون هو المراد لأن زينب بنت أبي سلمة عندما جاء الخبر بوفاة عبيد الله كانت في سن من يضبط، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر ولا سيما إذا تذكر سوء مصيره‏.‏

ولعل الرواية التي في الموطأ ‏"‏ حين توفي أخوها عبد الله ‏"‏ كانت عبيد الله بالتصغير فلم يضبطها الكاتب والله أعلم‏.‏

ويعكر على هذا قول من قال إن عبيد الله مات بأرض الحبشة فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم حبيبة، فإن ظاهرها أن تزوجها كان بعد موت عبيد الله، وتزويجها وقع وهي بأرض الحبشة وقبل أن تسمع النهي، وأيضا ففي السياق ‏"‏ ثم دخلت على زينب ‏"‏ بعد قولها دخلت على أم حبيبة، وهو ظاهر في أن ذلك كان بعد موت قريب زينب بنت جحش المذكور وهو بعد مجيء أم حبيبة من الحبشة بمدة طويلة، فإن لم يكن هذا الظن هو الواقع احتمل أن يكون أخا لزينب بنت جحش من أمها أو من الرضاعة، أو يرجح ما حكاه ابن عبد البر وغيره من أن زينب بنت أبى سلمة ولدت بأرض الحبشة فإن مقتضى ذلك أن يكون لها عند وفاة عبد الله بن جحش أربع سنين، وما مثلها يضبط في مثلها والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمست به‏)‏ أي شيئا من جسدها، وسيأتي في الطريق التي في العدد بلفظ ‏"‏ فمست منه ‏"‏ وسيأتي فيه لزينب حديث آخر عن أمها أم سلمة في الإحداد أيضا، وسيأتي الكلام على الأحاديث الثلاثة مستوفي إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب زيارة القبور‏)‏ أي مشروعيتها وكأنه لم يصرح بالحكم لما فيه من الخلاف كما سيأتي، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الأحاديث المصرحة بالجواز، وقد أخرجه مسلم من حديث بريدة وفيه نسخ النهي عن ذلك ولفظه ‏"‏ كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ‏"‏ وزاد أبو داود والنسائي من حديث أنس ‏"‏ فإنها تذكر الآخرة ‏"‏ وللحاكم من حديثه فيه ‏"‏ وترق القلب وتدمع العين، فلا تقولوا هجرا ‏"‏ أي كلاما فاحشا، وهو بضم الهاء وسكون الجيم وله من حديث ابن مسعود ‏"‏ فإنها تزهد في الدنيا ‏"‏ ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ زوروا القبور فإنها تذكر الموت ‏"‏ قال النووي تبعا للعبدري والحازمي وغيرهما‏:‏ اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة‏.‏

كذا أطلقوا، وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقا حتى قال الشعبي‏:‏ لولا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزرت قبر ابنتي‏.‏

فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم‏.‏

ومقابل هذا قول ابن حزم‏:‏ إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به‏.‏

واختلف في النساء فقيل‏:‏ دخلن في عموم الإذن وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة ويؤيد الجواز حديث الباب، وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة‏.‏

وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن ‏"‏ فقيل لها‏:‏ أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏؟‏ قالت نعم، كان نهي ثم أمر بزيارتها ‏"‏ وقيل الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في ‏"‏ المهذب ‏"‏ واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في ‏"‏ باب اتباع النساء الجنائز ‏"‏ وبحديث ‏"‏ لعن الله زوارات القبور ‏"‏ أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت‏.‏

واختلف من قال بالكراهة في حقهن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه‏؟‏ قال القرطبي‏:‏ هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال‏:‏ إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بامرأة‏)‏ لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر‏.‏

وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها ولفظه ‏"‏ تبكي على صبي لها ‏"‏ وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق ولفظه ‏"‏ قد أصيبت بولدها ‏"‏ وسيأتي في أوائل كتاب الأحكام من طريق أخرى عن شعبة عن ثابت ‏"‏ أن أنسا قال لامرأة من أهله‏:‏ تعرفين فلانة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم مر بها ‏"‏ فذكر هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال اتقي الله‏)‏ في رواية أبي نعيم في المستخرج ‏"‏ فقال يا أمة الله اتقي الله ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى‏.‏

قلت‏:‏ يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور ‏"‏ فسمع منها ما يكره فوقف عليها ‏"‏ وقال الطيبي‏:‏ قوله ‏"‏ اتقي الله ‏"‏ توطئة لقوله ‏"‏ واصبري ‏"‏ كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري ولا تجزعي ليحصل لك الثواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إليك عني‏)‏ هو من أسماء الأفعال، ومعناها تنح وابعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم تصب بمصيبتي‏)‏ سيأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة بلفظ ‏"‏ فإنك خلو من مصيبتي ‏"‏ وهو بكسر المعجمة وسكون اللام، ولمسلم ‏"‏ ما تبالي بمصيبتي ‏"‏ ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت ‏"‏ يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلي، ولو كنت مصابا عذرتني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم تعرفه‏)‏ جملة حالية أي خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقيل لها‏)‏ في رواية الأحكام ‏"‏ فمر بها رجل فقال لها‏:‏ إنه رسول الله، فقالت‏:‏ ما عرفته ‏"‏ وفي رواية أبي يعلى المذكورة ‏"‏ قال فهل تعرفينه‏؟‏ قالت‏:‏ لا ‏"‏ وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية له ‏"‏ فأخذها مثل الموت ‏"‏ أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم خجلا منه ومهابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم تجد عنده بوابين‏)‏ في رواية الأحكام ‏"‏ بوابا ‏"‏ بالإفراد قال الزين بن المنير‏:‏ فائدة هذه الجملة من هذا الخبر بيان عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفا وهيبة في نفسها فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت‏:‏ لم أعرفك‏)‏ في حديث أبي هريرة ‏"‏ فقالت والله ما عرفتك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما الصبر عند الصدمة الأولى‏)‏ في رواية الأحكام ‏"‏ عند أول صدمة ‏"‏ ونحوه لمسلم، والمعني إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب، قال الخطابي‏:‏ المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو‏.‏

وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأجر‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم كأنه قال لها‏:‏ دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغير الله وانظري لنفسك‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏‏.‏

فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة عن قولها الصادر عن الحزن بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب انتهى‏.‏

ويؤيده أن في رواية أبي هريرة المذكورة ‏"‏ فقالت أنا أصبر، أنا أصبر ‏"‏ وفي مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور ‏"‏ فقال اذهبي إليك، فإن الصبر عند الصدمة الأولى ‏"‏ وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن ‏"‏ والعبرة لا يملكها ابن آدم‏"‏‏.‏

وذكر هذا الحديث في زيارة القبور مع احتمال أن تكون المرأة المذكورة تأخرت بعد الدفن عند القبر والزيارة إنما تطلق على من أنشأ إلى القبر قصدا من جهة استواء الحكم في حقها حيث أمرها بالتقوى والصبر لما رأى من جزعها ولم ينكر عليها الخروج من بيتها فدل على أنه جائز، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها فأقامت عند القبر بعد الدفن أو أنشأت قصد زيارته بالخروج بسبب الميت‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل، ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس، وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر‏.‏

وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقرونا بالصبر‏.‏

وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة، وأن المواجهة بالخطاب إذا لم تصادف المنوي لا أثر لها‏.‏

وبني عليه بعضهم ما إذا قال يا هند أنت طالق فصادف عمرة أن عمرة لا تطلق‏.‏

واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان الزائر رجلا أو امرأة كما تقدم، وسواء كان المزور مسلما أو كافرا، لعدم الاستفصال في ذلك‏.‏

قال النووي‏:‏ وبالجواز قطع الجمهور‏.‏

وقال صاحب الحاوي‏:‏ لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط انتهى‏.‏

وحجة الماوردي قوله تعالى ‏(‏ولا تقم على قبره‏)‏ ، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال الزين بن المنير‏:‏ قدم المصنف ترجمة زيارة القبور على غيرها من أحكام تشييع الجنازة وما بعد ذلك مما يتقدم الزيارة لأن الزيارة يتكرر وقوعها فجعلها أصلا ومفتاحا لتلك الأحكام انتهى ملخصا‏.‏

وأشار أيضا إلى أن مناسبة ترجمة زيارة القبور تناسب اتباع النساء الجنائز، فكأنه أراد حصر الأحكام المتعلقة بخروج النساء متوالية‏.‏

والله أعلم‏.‏